Translate الترجمة

الجمعة، 23 أغسطس 2024

ك1.تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه /ك2. {حقيقة مذهب الاتحاديين/معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد}

 

تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه

مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، فقال له آخر: بل كلمه تكليما، فقال: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال: إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فهو كما قال أو لا؟

((
الجواب)): الحمد لله، أما من قال إن الله لم يكلم موسى تكليما فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن، بل لو قال: إن معنى كلامي أنه خلق صوتا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه أيضا كفرا، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف قالوا: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، لكن من كان مؤمنا بالله ورسوله مطلقا ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيرا مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان.

والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس فقتلوا لأجل الفساد في الأرض وحفظا لدين الناس أن يضلوهم.

وبالجملة فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقة.

ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق وأن الله وإنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وأنه لا يرى في الآخرة، وأنه ليس مباينا لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه.

الكفر جحود قطعي في الشرع لا العقل

وأما قول الجهمي: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت، والحرف والصوت محدث، ومن قال إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر، فيقال لهذا الملحد: أنت تقول إنه كلمه بحرف صوت، لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول أنه لا يجوز أن تقوم به الحروف والأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز، والباري ليس بمتحيز ومن قال إنه متحيز فقد كفر. ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة.

وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة: إن العقل معه، قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي وهو موافق للكتاب والسنة، فهذا يقول إن معه السمع والعقل، وذاك إنما يحتج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعه فساده، ولو قدر أن العقل معه.

والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئا علم بنظر العقل يكون كافرا، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفرا في الشريعة.

وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به فهو كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها الإخبار عن الله بأنه متحيز أو أنه ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا وهذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة، بل يستفسر هذا القائل إذا قال إن الله متحيز أو ليس بمتحيز فإن قال أعني بقولي أنه متحيز: أنه دخل في المخلوقات وإن المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل، وإن قال أعني أنه محاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا حق.

وكذلك قوله: ليس بمتحيز، إن أراد به أن المخلوق لا يجوز الخالق فقد أصاب وإن قال إن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه فقد أخطأ.

الكلام هل يكون بغير حرف ولا صوت، وهل يكونان غير حادثين

وإذا عرف ذلك فالناس في الجواب عن حجته الداحضة وهي قوله: لو قلت أنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث، ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى، وصنف منعوه المقدمة الثانية، وصنف لم يمنعوه المقدمتين بل استفسروه وبينوا أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليما.

فالصنف الأول.. أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن اتبعهما قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم والحروف والأصوات عبارة عنه، وذلك المعنى القائم بذات الله تعالى يتضمن الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر عنه، فإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وقالوا: إنه اسم الكلام حقيقة، فيكون اسم الكلام مشتركا أو مجازا في كلام الخالق، وحقيقة في كلام المخلوق.

والصنف الثاني.. سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت ومنعوهم المقدمة الثانية، وهو أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا، وصنف قالوا إن المحدث كالحادث سواء كان قائما بنفسه أو بغيره وهو يتكلم بكلام لا يكون قديما وهو بحرف وصوت، وهذا قول من يقول القرآن قديم وهو بحرف وصوت كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه، وقال هؤلاء في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني.

وقالوا كلام لا بحرف ولا صوت لا يعقل، ومعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا ممتنع في صريح العقل، ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد وإنما اختلفت العبارات الدالة عليه فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلا وشرعا وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات وإن جاز أن يقال: إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره.

وقالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم أن الكلام هو مجرد المعنى وقد خلق عبارة بيان فإن قلتم أن تلك العبارة كلامه حقيقة بطلت حجتكم على المعتزلة فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم أنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام يخلقه في غيره، كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره، وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره، وأن يريد بإرادة قائمة بغيره، وإن قلتم هي كلام مجازا لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازا في اللفظ، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات.

حدوث الحرف والصوت لا يقتضي كونه مخلوقا

والصنف الثالث.. الذين لم يمنعوا المقدمتين ولكن استفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم، بل قالوا: إن قلتم أن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب مخلوقا منه منفصلا عنه، فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه، وهذا قول ممنوع، وإن قلتم بمعنى أنه لا يكون قديما فهو مسلم لكن هذه التسمية محدثة.

وهؤلاء صنفان: صنف قالوا أن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه فإذا قلنا: الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا كان بمنزلة قولنا لا يكون إلا مخلوقا وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله بقوله حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق، ثم استدل على ذلك بما يقتضي أنه يتكلم بكلام مخلوق وفيه تلبيس.

مذاهب المسلمين في كلام الله وكونه بحرف وصوت أم لا

ونحن لا نقول: كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق، بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه سبحانه استوى إلى السماء وهي دخان وأنه سبحانه يأتي في ظلل من الغمام والملائكة، كما قال " وجاء ربك والملك صفا صفا " وقال: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقال تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يبين الله سبحانه أنه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه، وما كان قائما بنفسه هو كلامه لا كلام غيره، والمخلوق لا يكون قائما بالخالق، ولا يكون الرب محلا للمخلوقات، بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله، وليس من ذلك شيء مخلوقا، إنما المخلوق ما كان بائنا عنه، وكلام الله من الله ليس ببائن منه، ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا: منه بدا، أي هو المتكلم به لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة.

وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من أهل الكلام من أئمتهم من الهشامية والكرامية وغيرهم وأتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، منهم من يختار جواب الصنف الأول، وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن، وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني، وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون إن القرآن قديم كالساليمة وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ومنهم من يختار جواب الطائفة الثالثة، وهم الذين ينكرون قول الطائفتين المتقدمتين الكلابية والسالمية.

ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية، والكرامية ينتسبون إلى أبي حنيفة، ومنهم من لا يختار قول الكرامية أيضا لما فيه من تناقض آخر، بل يقول بقول أئمة الحديث كالبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن قبلهم من السلف، كأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين، وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة.

وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة، وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول، وما هو القول الصواب في صريح المعقول وصحيح المنقول لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول إن كلام الله مخلوق، والأمة متفقة على أن من قال إن كلام الله مخلوق لم يكلم موسى تكليما يستتاب فإن تاب وإلا يقتل.

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

فتوى أخرى لشيخ الإسلام رحمه الله في القرآن هل هو بحرف وصوت أم لا؟ وفي نقط المصحف وشكله هل هما منه أم لا؟

سئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت، وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت، وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن، وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن، فما الصواب في ذلك؟

فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ويخلطون الحق بالباطل، فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على محمد وخاتم النبيين والمرسلين وأن جبريل سمعه من الله والنبي سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من النبي كما قال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال: " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فقد أصاب في ذلك، فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.

تخطئة قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله تعالى

ومن قال: إن القرآن العرب لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبريل أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فهو قول باطل من وجوه كثيرة.

فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وأن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، وأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وبالعبرانية كان توراة وبالسريانية كان إنجيلا فيجعلون معنى آية الكرسي وآية الدين و " قل هو الله أحد " " تبت يدا أبي لهب " والتوراة والإنجيل وغيرهما معنى واحدا، وهذا قول فاسد بالعقل والمشاهدة وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه غيره من السلف.

وإن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي، أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالقرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله لا كلام غيره كما ذكر الله ذلك، وفي السنن عن جابر بن عبد الله أن النبي كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ". وقالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم " ألم غلبت الروم " أهذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله تعالى.

والناس إذ بلغوا كلام النبي كقوله: " إنما الأعمال بالنيات " أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبي تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبي ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله إذا بلغته الرسل عنه وقرأته الناس بأصواتهم.

والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ونادى موسى بصوت نفسه، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وقد نص أئمة الإسلام أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم بحرف وصوت ليس منه شيء كلاما لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ والكلام كلام البارئ.

خطأ عدم التمييز بين صوت العبد وصوت الرب نفيا وإثباتا

وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب بل يجعل هذا هو هذا فينفيهما جميعا أو يثبتهما، جميعا، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربي كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله عز وجل، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا فرق بين القديم والحادث، وهو مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق.

وإذا ثبت جعل صوت الرب هو العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله أن الحروف متعاقبة في الوجود مقترنة في الذات قديمة أزلية الأعيان فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو يتحد بصفته فقال بنوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل.

وقد علم أن عدم الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته خطأ وضلال لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شيء من أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديما، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين مقروء بألسنتهم محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله. والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط لأنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم لما أحدث اللحن نقط المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ولم يكره في أظهر قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

حروف المصاحف ونقطها وشكلها مخلوقة، وكلام الله فيها غير مخلوق

وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط الحروف، والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله العربي الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق، وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه بل هو تابع للحروف المرسومة فلهذا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله معانيه وحروفه وإعرابه، والله تكلم بالقرآن العربي الذي أنزله على محمد والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله وهو القرآن العربي الذي أنزل على نبيه سواء كتب بشكل ونقط أو بغير شكل ونقط، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل غير مخلوق، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين لأن كلام الله مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين، ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه.

الآيات الدالة على أنه تعالى يتكلم بما شاء شيئا بعد شيء

والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله فلا يقال بعضهم كلام الله وبعضه ليس بكلام الله وهو سبحانه نادى موسى بصوت سمعه موسى، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن كما قال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى " والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة، وقد قال تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلا قد قصصناهم من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما " فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى فمن قال إن موسى لم يسمع صوتا بل ألهم معناه، لم يفرق بين موسى وغيره وقد قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا.

وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره: لم يزل متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتلكم بشيء بعد شيء، كما قال تعالى " فلما أتاها نودي يا موسى " فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك، وقال تعالى: " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها ولم ينادهما قبل ذلك، وكذلك قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " بعد أن خلق آدم وصوره ولم يأمرهم قبل ذلك، وكذا قوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فأخبر أنه قال له كن فيكون بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " وقال: " نبدأ بما بدأ الله به " فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.

والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين، ثم قالت طائفة: هو معنى واحد وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي، والخبر بكل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول مخالف للشرع والعقل.

وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله لم تزل لازمة لذاته، وإن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا أزلا وأبدا لم تزل ولا تزال لم يسبق منها شيء شيئا، وهذا مخالف للشرع والعقل.

من أنكر تكليمه تعالى ونداءه لموسى بمشيئته واختياره حقيقة

وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا أن القرآن مخلوق في أصل قولهم، فإن أصل قولهم أن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام لا فعل باختياره ومشيئته، وقالوا هذه حوادث والرب لا تقوم به الحوادث فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، وأخطأوا في ذلك، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا بغير أمر حدث، أو يغيرون العبارة فيقولون لم يزل قادرا، لكن يقولون إن المقدور كان ممتنعا وأن الفعل صار ممكنا له بعد أن صار ممتنعا عليه من غير تجدد شيء، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا كان قادرا في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، لا على ما لا يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادرا في حال كون المقدور عليه ممتنعا عندهم، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته كما تدل على ذلك الدلائل القطعية، والفاعل بمشيئته لا يكون شيئا من مفعوله لازما بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف الفاعل بالإرادة.

المعلول مقارن علته إذا جرت مجرى الشروط

وما يذكر بأن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط فإن الشرط لا يلزمه أن يتقدم على المشروط بل قد يقارنه كما تقارن الحياة العلم، وأما ما كان فاعلا سواء سمي أو لم يسمى علة فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين ولأنه لو كان قديما فاعله موجبا بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شيء من الحوادث وهذا خلاف المشاهدة، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل بل لم يزل متكلما إذا شاء فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب، وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على قدرة الرب تعالى مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود لا نقص فيه منزه عن كل نقص، وهو سبحانه ليس له كف في شيء من أموره، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل منزه فيها عن التشبيه والتمثيل، ومنزه عن النقائص مطلقا، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الأحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها، ولا كفؤ له فيها.

أصل الاضطراب في كلام الله "المناظرة في مسألة حدوث العالم"

وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام بل كان ذلك ممتنعا عليه وكان معطلا عن ذلك وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأول فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أول والأزل لا أول له والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين.

ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين والمفعول المعين، وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام بل هذا يكون دائما وإن كان كل من آحاده حادثا كما يكون دائما في المستقبل وإن كان كل من آحاده فانيا، بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار لم ينازع فيه الأشرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب لوجوده فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء مع مخالفتهم لسلفهم أرسطو وأتباعه فإنه لم يكونوا يقولون ذلك وإن قالوا بقدم الأفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين بناء على إثبات علة غائية لحركة الفلك يتحرك الفلك للتشبه بها لم يثبتوا له فاعلا ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره وهم وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم فيهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم فاحتاجوا أن يقولوا كلامه مخلوق منفصل عنه.

مذهب طوائف المبتدعة المخالفة للنصوص في كلام الله وأفعاله

وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له لكن قالوا تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا أنه في الأزل لم يكن متكلما بل ولا كان الكلام مقدورا له ثم صار متكلما بلا حدوث حادث بكلام يقوم به وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم.

وطائفة قال: إذا كان القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازما لذات الرب فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم منهم من قال هو معنى واحد قديم، فجعل آية الكرسي وآية الدين وسائر آيات القرآن التوراة والإنجيل وكل كلام يتكلم الله به معنى واحدا لا يتعدد ولا يتبعض، ومنهم من قال إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات، وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض، ولا يأتي يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ولا تفرحه توبة التائبين، وقالوا في قوله " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ونحو ذلك، إنه لا يراها إذا وجدت بل إما أنه لم يزل رائيا لها وإما أنه لم يتجدد شيء موجود بل تعلق معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل.

والذي ألجأهم لذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم: الخلقية، والحدوثية، والاتحادية، والاقترانية.

شر المبتدعة "الصابئة والمتفلسفة" وإبطال قولهم

وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته لا قديم النوع ولا قديم العين ولا حادث ولا مخلوق بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء، ويقولون إنه كلم موسى من سماء عقله، وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي، ويقولون مع ذلك أنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله.

وقولهم: يعلم نفسه ومفعولاته، حق كما قال تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "، لكن قولهم مع ذلك: إنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض فإن نفسه المقدسة معينة والأفلاك معينة وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وهم إنما ألجأهم إلى هذا الحد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى، مع أن هؤلاء يقولون إن الحوادث تقويم بالقديم وأن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ لاعتقادهم أنه لا صفة له بل هو وجود مطلق، وقالوا أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر والعلم والعالم شيء واحد، والمريد والإرادة شيء واحد، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى وجعلوا الصفات هي الموصوف.

ومنهم من يقول بل العلم كل المعلوم كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه، وابن سينا أقرب إلى الصواب لكه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف وكل صفة هي الأخرى.

ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول معاني الكلام شيء واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك، فقالوا إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا، جاز أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه.

اللوازم الباطلة دينا وعقلا للنظريات في كلامه تعالى وصفاته

ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع.

وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذي قاله أهل الوحدة والحلول في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه وقالوا هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا أولا أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال " إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني - إلى - أنا الله رب العالمين " كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودات في الأزل بعضا بعضها، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله.

ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم ومحدث. وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي، وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه بل منهم من يظن أن معناه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم لا يميز بين ما يقول، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل.

والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد بسطناها في الواجب الكبير.. والله أعلم بالصواب.

فتوى أخرى لشيخ الإسلام في إثبات أن الكلام صفة المتكلم لا عينه ولا غيره

سئل أيضا رضي الله عنه: ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له المعنى، بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد.. أثابكم الله بمنه.

فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم والقول غير القائل وأراد أنه مباين له منفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول إن القرآن مخلوق فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم العلم غير العالم والقدرة غير القادر والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق وهذا تلبيس منهم.

فإن لفظ الغير يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال علم الله غيره، ولا يقال إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ الغير ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقا، لأن صفاته ليست هي الذات لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسما لذات لا فات ها بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.

قول السلف: "القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود"

والصواب في مثل هذا أن يقال الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس منه بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد كما قال تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " ولا يجوز أن يقال إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: أنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فقولهم منه بدأ رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام ومن ذلك المخلوق ابتدأ، فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود أي فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله.

فمن قال إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال إن الكلام غير المتكلم، وكذلك من قال إن كلام الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر، وكذلك من قال إن القرآن الذي يقرأه المسلمون غير المقروء الذي يقرأه المسلمون فقد أخطأ.

الضلال في الألفاظ المجملة إذا لم يبين المراد منها

وإن أراد بالقرآن مصدر: قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، وقال: أردت أن القراءة غير المقروء فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر غير المقروء كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة وقسما منه أخرى، فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله : " إن الله تجاوز لا متى ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ومنه قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "، ومنه قوله تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل " وأمثال ذلك فيما يفرق بين القول والعمل، وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " وقد فسروه بقول لا إله إلا الله، ولما سئل : أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله " مع قوله " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ونظائر ذلك متعددة.

وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا -إذا قال قولا كالقراءة ونحوها- هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره بناء على هذا.

فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب.. والله سبحانه وتعالى أعلم.

((
تم الكتاب المجموع ولله الحمد))
============
💥💥💥💦====2.=======

الكتاب الثاني  

 

  💦💦💦💦💥💥💥💥💦
مجموعة الرسائل والمسائل/حقيقة مذهب 

 الاتحاديين/معاني العموم والخصوص والإطلاق

  والتقييد
معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد

وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ. وسائر الصفات: الإرادة والحب والبغض والغضب والرضاء يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام. هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجاز؟ على قولين (أحدهما) مجاز لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر فليس هناك عموم، وقيل بل حقيقة لأن المطر المطلق قد عم.

وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره، أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات.

وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب فإن العقل يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا. وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق؟ هذا فيه قولان، المطلق له وجود في الخارج فإنه جزء من المعين، وقيل لا وجود له في الخارج، إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد، والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءا من المعين الذي لا يشركه فيه.

والتحقيق أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف. فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر ونجس، فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة. فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلاق.

لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد.

وأما ما كان كلامنا فيه أولا فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين. فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطا كثيرا جدا، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معينا لا يقبل الشركة كأنا وهذا وزيد، ويقال له المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق وله ثلاث اعتبارات كما تقدم.

المطلق والمقيد في اللفظ والمعنى

وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، وأن الماء يقال على المني وغيره كما قال (من ماء دافق) ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في لفظ الماء عند الإطلاق لكن عند التقييد. فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضا ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو العام وهو المطلق بلا شرط، ولكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده.

الفرق بين اللفظ والمعنى في الإطلاق والتقييد

وإنما كان كذلك لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص. فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد.

وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه وبين تقييد المعنى وإطلاقه عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيدا بقيد العموم، أو مقيدا بقيد الخصوص، والمطلق من المعاني نوعان: مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط، وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق كقولنا الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقا لا بشرط الإطلاق كقولنا إنسان.

فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق. وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان.

فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق.

وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى، والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء، وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقا من كل وجه، فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له، فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال هو مطلق بشرط الإطلاق إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق حتى يقال تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها، وأما المطلق من المعاني لا بشرط فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزا مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجودا في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجودا في الخارج لأن هذا أخص منه، فإذا قلنا: حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته.

فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا.

الحق ليس له وجود معين، بل هو كالكلي في الجزئي

وتلخيص النكتة أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا فلا يكون للحق وجود إلى وجود الأعيان. فيلزم محذوران (أحدهما) أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات (والثاني) التناقض وهو قوله أنه الوجود المطلق دون المعين.

فتدبر قول هذا فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلي في جزئياته وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم. وصاحب هذ القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات كما جعله الأول في الأعيان.

فصل في أن مذهب التلمساني في الوحدة مخالف لابن عربي والرومي

وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى، ولا غير بوجه من الوجه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر، وآخر البيت من البيت، فمن شعرهم:

البحر لا شك عندي في توحده... وإن تعدد بالأمواج والزبد

فلا يغرنك ما شاهدت من صور... فالواحد الرب ساري العين في العدد

ومنه:

فما البحر إلا الموج لا شيء غيره... وإن فرقته كثرة المتعدد

ولا ريب أن هذا القول هو أحق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئا أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن قولان ضعيفان باطلان، وقد عرف من حدد النظر أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين (أحدهما) وجودها (والثاني) ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات والممتنعات والمشروطات، وبقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه. فإن الموجودات ذوات متصورة فيه، لكن هذا القول أشد جهلا وكفرا بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وإن الرائي عين المرئي والشاهد عين المشهود.

فصل في أن الحلول والاتحاد أربعة أقسام

واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: أن الوجود واحد ورد ذلك، وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين.

وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص. وذلك أن القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فأما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح أو يجعله عاما لجميع الخلق. فهذه أربعة أقسام:

الأول: هو الحلول الخاص - وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: أن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون. وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.

والثاني: هو الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا وهم السودان والقبط، يقولون إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.

والثالث: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان ويتمسكون بمتشابه القرآن كقوله (وهو الله في السموات وفي الأرض) وقوله (وهو معكم) والرد علىهؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة وعلماء الحديث.

كفر القائلين بالاتحاد العام أعظم من كفر النصارى

الرابع: الاتحاد العام وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين: من جهة أن أولئك قالوا أن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره (والثاني) من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم) الآية. فكيف بمن قال إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟ وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقال لهم (قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) الآية. فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟ ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع؟ كما في قوله " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها " وأن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم...

واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم: أن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم (أن الله هو المسيح بن مريم) فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهرا واحدا ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم، ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به كما للنصارى. هذا ما دام أحدهم في الحجاب، فإذا ارتفع عن قلبه وعرف أنه هو فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر والنهي ويبقى سدى يفعل ما أحب وبين أن يقوم بمرتبة الأمر والنهي لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الحق. ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين.

فصل في أن مذهب الاتحادية مركب من ثلاث مواد وشبههم بالنصارى

مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني مركب من ثلاثة مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية، وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر، ومن الزندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل. فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي، ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم. والتلمساني أعظمهم تحقيقا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر.

وبيان ذلك أنه قال: هو في كل متجل بوحدته الذاتية، عالما بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها.

فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدودة، فعند ذلك عبر " بأنا " وظهرت حقيقة النبوة التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن كما أن الأول هو المسمى باسم الله، وسقت الكلام إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهودا له معدوما في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق؟ فقد لزم أن يكون الرب كان معدوما وأن يكون صادرا عن نفسه، ثم أنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن، فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوما صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر الواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوما ولا صادرا عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى اللاهوت الناسوت. لكن هذا أكفر من وجوه متعددة.

فصل في ما كان به الاتحادية أكفر من النصارى

الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق الذي كان فيه متحدا بنفسه بوحدته الذاتية، هل خلقها وبراها وجعلها موجودة بعد عدمها أم لم تزل معدومة؟ فإن كانت لم تزل معدومة فيجب أن لا يكون شيء من الكونيات موجودا، وهذا مكابر للحس والعقل والشرع، ولا يقوله عاقل، ولم يقله عاقل.

وإن كانت صادرة موجودة بعد عدمها امتنع أن تكون هي إياه، لأن الله لم يكن معدوما فيوجد. وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون به موجودا ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده. وهذا يبطل قولك! وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان.

الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه، أو قولك: ظهر الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع مثل قولهم: ظهر الحق، وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهي ومجلى إلهي، ونحو ذلك - أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهرا متجليا لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أن ظهر لخلقه بها وتجلى بها وأنه ما ثم قسم رابع؟

فإن عنيت الأول - وهو قول الاتحادية - فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات والشياطين الكفار هي ذات الله، أو هي ودات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله هو ثالث ثلاثة) وإن الله يلد ويولد. وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء. ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما نافعا.

وإن عنيت أنه صار ظاهرا متجليا لها، فهذا حقيقة أمر صار معلوما لها، ولا ريب أن الله يصير معروفا لعبده. لكن كلامك في هذا باطل من وجهين: من جهة أنك جعلته معلوما للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالما قادرا فاعلا. ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.

وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه، فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين (أحدهما) أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو هي المتجلية له.

الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إلى قوله. لآيات لقوم يعقلون) وتارة يسميها نفسها آية كما قال تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.

فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور.

وفيه إيهام وإجمال. فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين لا سيما لفظ المتجلي وأن استعماله في التجلي للعين هو الغالب. وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه...

وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين. بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي قال " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل. فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.

الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها " بأنا " واللفظة التي هي " حقيقة النبوة " و " الروح الإضافي " هذه الأشياء داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة أم ليست داخلة في مسمى أسمائه؟ فإن كان الأول فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءا من الله وصفة له، وإن كان الثاني فهذه الأشياء معدومة ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا القسم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس.

فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت " أنا " وحقيقة نبوة، وروحا إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان: كون جميع المخلوقات جزءا من الله، وكونه متغيرا هذه التغيرات التي هي من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة من ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال؟

الوجه الرابع: أن عنده حقيقة النبوة وما معها إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو الله أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي، وقد قال بعد هذا: أنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمدا عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله وأعطى محمدا ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطي ومن المعطى؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أو غيرها من كل ما سوى الله من الأعيان فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق وصفا، وأنه المسمى باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين (قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن؟) ومن إلحاد الذين قيل فيهم (وهم يكفرون بالرحمن) فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقا من مخلوقاته.

وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة فإما أن تكون صفة لله أو لغيره، فإن كان صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم.

وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها (عقدة حقيقة النبوة) وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمدا هذه العقدة، ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأشنعه.

الوجه الخامس: أن قوله لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه وهو المسمى بالروح الإضافي، فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء، وهو متجلى بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفا.

وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر، فهذا الحق والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض.

ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى فقد جعلته ظاهرا وجعلته مظهرا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه؟ وإن عنيت الوضوح والتجلي، وليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهورا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها.

وأيضا فقد قلت: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض.

حيرة الاتحادية وتناقضهم في الاتحاد كالنصارى في التثليث

الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى وتناقضهم في الأقانيم. فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد. والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.

فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلها إلا أن يكون هو الأب، وإن كانت جواهر وجب أن لا تكون إلها واحدا، لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهرا واحدا. وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي، فهي بكونه عالما ليس هو بكونه قادرا. فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتا واحدة لها صفات متعددة وأنهم لا يقولون ذلك.

وأيضا: فالمتحد بالمسيح إذا كان إلها امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف. وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) فالنصارى حيارى متناقضون، إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلها، وإن جعلوه جوهرا امتنع أن يكون الإله واحدا، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلها واحدا. ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة، لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.

وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غيره، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلى لا غيره. وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.

وهذا الرجل وابن عربي يشتركان في هذا ولكن يفترقان من وجه آخر.

فإن ابن عربي يقول: "وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها. فإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق والخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك". وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا: بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا له اقنومان. وأما التلمساني فإنه لا يثبت بعد ذلك بحال فهو مثل يعاقبة النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا أن اللاهوت به يتدرع الناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به. وهؤلاء قالوا أنه في جميع العالم، وأنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصومه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر وهو العابد والمعبود، وإن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل لضيق هارون وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وأن أعظم مظهر فيه هو الهوى فما عبد أعظم من الهوى. لكن ابن عربي يثبت أعيانا ثابتة في العدم.

بيان بطلان أقوال الاتحادية بالعقل والنقل

وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح لكن لا يتم له معه ما صلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد والقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضا وهذيانا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر. ومقتضى كلامه هذا أنه جعل وجوده مشروطا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرا إلى العالم محتاجا إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين. وقد قال الله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) إلى آخر الآية. فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق ويعدم إذا عدم الجفن؟ وقد قال في كتابه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا) الآية. فمن يمسك السموات؟ وقال في كتابه (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) الآية. وقال (رفع السموات بغير عمد ترونها) وقال (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) لا يؤده لا يثقله ولا يكرثه، وقد جاء في الحديث حديث أبي داود " ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة " وقد قال في كتابه " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) الآية. وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود " إن الله يمسك السموات والأرض بيده " فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكها أن تزولا، أيكون محتاجا إليهما مفتقرا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟ وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله أو تظله لما في ذلك من احتياجات إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؟ لأن الله غني عن العالمين، حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض تفرق وانتشر وعدم؟ فإن حاجته في الحمل إلى العرش أبعد من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش.

ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم العالم وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشرا متفرقا معدوما، ثم لما خلقهما صار موجودا مجتمعا؟ هل يقول هذا عاقل؟ فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم: إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك انتقص من نور الحق ويتفرق ويعدم بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك زاد نوره واجتمع ووجد.

وأما إن عني أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض لكن لا يظهر فيه شيء، - فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي أنه قال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " وقال عبد الله بن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه " فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟

الوجه السابع: قوله فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات، أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه العين فالعين الأخرى أي شيء هي؟ وبقية الأعضاء أين هي؟ هذا على قولك إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين به، فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضا من الله وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة والفرعونية الاتحادية الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.

فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئا ولا هو رب العالمين، لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) يقول أخلقوا من غير خالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ ولهذا قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي يقرأ هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع. فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيرا له.

الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله وهم دائما يزيدون وينقصون ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال منتوفة كاشرة فاسدة، ويكون المشركون واليهود والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن جعلهم من نفسه؟

الوجه التاسع: أنه متناقص من حيث جعل الروح بياضها والنفس الكلية سوادها والسموات الجفن الأعلى والأرضون الجفن الأسفل. ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه.

الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة. وأما الروح فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل وهو أول الصادرات. وسماه هو روحا، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع. لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول والنفوس والأفلاك والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونا إياه. فقولهم إنما ينطبق على المعطلة مثل فرعون وحزبه الذي قال (وما رب العالمين) وقال (ما علمت لكم من إله غيري) وقال (يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات) الآية، فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم ويقول ما فوق رب ولا له خالق غيره. فهؤلاء إذا قالوا أنه عين السموات والأرض، فقد جحد وأما جحده فرعون وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلها ولم يقل هو الله. وهؤلاء قالوا هذا هو الله. فهم مقرون بالصانع لكن جعلوه هو الصنعة. فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون، وفرعون بالعكس كان منكرا للصانع في الظاهر وكان في الباطن مقرا به. فهو أكفرهم منهم، وهم أضل منه وأجهل. ولهذا يعظمونه جدا.

الوجه الحادي عشر: قول القائل بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله. فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والآخرين؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره الذي هو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشايخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرا من التتار في هذا الوجه.

وأما محققوهم وجمهورهم فيجوز عندهم التهود والتنصر والإسلام والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء، ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق...

========================

ك1.تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه /ك2. {حقيقة مذهب الاتحاديين/معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد}

  تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، فقال له آخر: بل كلمه تكليما، فقال: إن قل...