Translate الترجمة

الجمعة، 23 أغسطس 2024

مجموعة الرسائل والمسائل​ المؤلف ابن تيمية{{ فيما قاله في مسألة اللفظ}}

 

مجموعة الرسائل والمسائل​ المؤلف ابن تيمية فيما قاله في مسألة اللفظ
فصل آخر فيما قاله في مسألة اللفظ
كما في كتابه "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"1 وهذا نصه: القرآن كلام الله بلغه جبريل لمحمد، ومحمد للناس برسالتهما

لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئا، لا كلام من بلغه عنه مؤديا، فالنبي ﷺ إذا قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله ﷺ الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وإنما سمعناه عن المبلغ عنه بفعله وصوته، ونفس الصوت الذي تكلم به النبي ﷺ لم نسمعه، وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله ﷺ لا كلام المحدث، فمن قال إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله ﷺ كان مفتريا، وكذلك من قال إن هذا لم يتكلم به رسول الله ﷺ وإنما أحدثه في غيره أو أن النبي ﷺ لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتا أو عاجزا عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر عما في نفس النبي ﷺ ونحو هذا الكلام - فمن قال هذا كان مفتريا ومن قال إن هذا الصوت المسموع صوت النبي ﷺ كان مفتريا، فإذا كان هذا معقولا في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم.

فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ليس هو كلاما لغيره لا لفظه ولا معناه، ولكن بلغه عن الله جبريل وبلغه محمد عن جبريل، ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين، لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه لا لفظه ولا معناه، إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الأحداث إلى الآخر فقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فهذا محمد ﷺ.

وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فهذا جبريل عليه السلام وقد توعد تعالى من قال " إن هذا إلا قول البشر ".

أصوات القارئين المبلغين كلام الله مخلوقة وهو غير مخلوق

فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر، وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر، ومن قال إن شيئا منه قول البشر فقد قال ببعض قوله، ومن قال إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهذا أيضا كافر ملعون.

وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه، وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وإنا نحن إنما نسمع كلام الله من المبلغين عنه، وإن كان الفرق ثابتا بين من سمع كلام النبي ﷺ منه ومن سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى، لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته، من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته.

ولما كان الجهمية يقولون: إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاما في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي، كان من المعلوم أن القائل إذا قال هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه هو ليس بكلامه بل خلقه في غيره، وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعنى وإن كان صحيحا ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا هذا القرآن كلام الله، لم يريدوا بذلك أن أصوات القائلين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا هذا الحديث حديث رسول الله ﷺ لم يريدوا بذلك أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله ﷺ، بل وكذلك إذ قالوا في إنشاد المنشد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" هذا شعر لبيد وكلام لبيد، لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد، بل أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه هو للبيد وهذا منشد له.

فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو أن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال إن هذا الكلام ليس هو كلام الله، وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله ﷺ، وأن النبي ﷺ لم يتكلم بهذا الحديث، وبمنزلة من قال إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد، ومعلوم أن هذا كله باطل.

أقوال فرق الجهمية الثلاث في القرآن

ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءة القرآن مخلوقة، ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق.

ويدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا: اللفظية جهمية، وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق، فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة. فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم، ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة: من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.

وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة، أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وصنف أبو محمد بن قتيبة في ذلك كتابا وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروذي في ذلك، وذكر قصة أبي طالب المشهورة عن أحمد التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروذي وأبي محمد فوزان ومحمد بن إسحاق الصنعاني وغير هؤلاء.

سبب اختلاف أئمة الحديث في لفظ القارئ للقرآن

وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف، ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة ردا لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بذلك نوع من الفرقة والفتنة.
وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما، وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ.

وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة.

والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه، ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيما للعمل ونوعا آخر ليس هو منه.

ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق هل يدخل فيه الكلام على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملا فتكلم هل يحنث؟ على قولين: وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل، فالأول كما في قول النبي ﷺ: " لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فهو يقول لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لعملت مثل ما يعمل " كما أخرجه الشيخان في الصحيحين، فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملا كما قال لعملت فيه مثل ما يعمل الثاني كما في قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقوله تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا شهودا إذ تفيضون فيه ".

فالذين قالوا: التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المتلو، وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء.

والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليست هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح.

قراءة القرآن بمعنى "المصدر" فعل العبد، وبمعنى "المقروء" كلام الرب

وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك، يراد به المصدر ويراد به المفعول، فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح، ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح.

غرض المبتدعة من قولهم "تلاوة القرآن وألفاظه مخلوقة"

فمن قال: اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة، أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي - دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحا، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره، ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي، احترازا عما إذا أراد به فعله وصوته.

وذكر اللالكائي: إن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له: لا تضربني، فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة، فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي، فقال: هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن.

ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي، قيل: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحا فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطا بين الطرفين.

وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق، ومن غير أن يقرن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة.

وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد، وهم كما ذكر البخاري  في كتاب خلق الأفعال، وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه.

ثم صار ذلك التفرق موروثا في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم، وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئا منه، ولا خلق منه شيئا في غيره، لا حروفه ولا معانيه، مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما.

بدعة ابن كلاب في الكلام ومسألة اللفظ في القرآن

وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به، وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة.

وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى " قل هو الله أحد " هو معنى " تبت " وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى، بل قصده أن التلاوة أفعال العباد وأصواتهم، وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له، ومنهم من لا يعرف منه هذا ولا هذا، وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ممن يوافق ابن كلاب على قوله موافقا للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا، فيمنعون أن يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن أنه بلفظ أو لا بلفظ، وقالوا: اللفظ الطرح والرمي، ومثل هذا لا يقال في القرآن، ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله، ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظ والحلولية ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة، كما مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقة، وحكى كل منهما عن الأئمة ما يدل على كثير من مقصوده لا على جميعه، فما قصده كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثابت عن الأئمة ما يوافقه.

وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أمورا عظيمة المنفعة، لكنه نصر فيه قول من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل، ورجح طريقة من هجر البخاري، وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنه رجع إلى ذلك، وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة، وليس الأمر كما ذكره، فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام أحمد، كالمروذي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم، وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد.

أصح قولي المتبعين لقول أحمد من المحدثين والنظار

وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم، ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتابا فيمن أخذ عن أحمد العلم، فذكر طائفة ذكر منهم أبا بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلى وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا، وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان الماثلين إلى طريقة ابن كلاب، ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحيانا محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة، وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم.

وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة الباقلاني وأدخلها إلى الحرم، ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم، وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب، فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي، ثم رحل الباجي إلى العراق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني الحنفي قاضي الموصل صاحب الباقلاني.

ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع.. انتهى.

فصل أو فتوى في مسألة الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله: حكم من أنكر تكليم الله لموسى وأخذ جبريل القرآن عن الله تعالى

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رجل قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ، فهل هو على الصواب أم لا؟

فأجاب: الحمد الله، ليس هذا على الصواب، بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها، بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإذا قال لا أكذب بلفظ القرآن وهو قوله " وكلم الله موسى تكليما " بل أقر بأن هذا اللفظ حق لكن أنفي معناه وحقيقته.

مذهب الجهمية في نفي الصفات والتكليم وما كان عليه أئمة الدين

فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة.

وأول من قال هذه المقالة في الإسلام كان يقال له الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم أضحى، فإنه خطب الناس فقال في خطبته: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وأخذ هذه المقالة عنه جهم بن صفوان وقتله بخراسان سلمة بن أحور، وإليه نسبت هذه المقالة التي تسمى مقالة الجهمية، وهي نفي صفات الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة ولا يكلم عباده، وأنه ليس له علم ولا حياة ولا قدرة ونحو ذلك من الصفات، ويقولون: القرآن مخلوق.

ووافق الجهم على ذلك المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد وضموا إليها بدعا أخرى في القدر وغيره، لكن المعتزلة يقولون إن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاما في غيره إما في شجرة وإما في هواء وإما في غير ذلك من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات.

والجهمية تارة يبوحون بحقيقة القول، فيقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليما ولا يتكلم، وتارة لا يظهرون هذا اللفظ لما فيه من الشناعة المخالفة لدين الإسلام واليهود والنصارى، فيقرون باللفظ ولكن يقرنونه بأنه خلق في غيره كلاما.

وأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة من أن الله كلم موسى تكليما وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما تواترت به الأحاديث عن النبي ﷺ وأن لله علما وقدرة ونحو ذلك.

تصريح خمسمائة وخمسون من التابعين وأئمة الأمصار بعدم خلق القرآن

ونصوص الأئمة في ذلك مشهورة متواترة حتى أن أبا القاسم الطبري الحافظ لما ذكر في كتابه في شرح أصول السنة مقالات السلف والأئمة في الأصول ذكر من قال القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا أو أكثر من التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل قول أهل الحديث لبلغت أسماؤهم ألوفا، لكني اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم في سني نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القسري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافه هشام بن عبد الملك.

وروى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجهين أنهم قالوا له يوم صفين: حكمت رجلين؟ فقال: ما حكمت مخلوقا ما حكمت إلا القرآن، وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل وقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: مه، القرآن منه. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين. وهذا ثابت عن ابن مسعود. وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وفي لفظ يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال حرب الكرماني ثنا إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود.

وهذا قد رواه عن ابن عيينة إسحاق، وإسحاق إما أن يكون سمعه منه أو من بعض أصحابه عنه. وعن جعفر الصادق بن محمد - وهو مشهور عنه - أنهم سألوه عن القرآن أخالق هو أم مخلوق؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله.

النقول عن الأئمة الأربعة وأمثالهم: "أن القرآن غير مخلوق"

وهكذا روي عن الحسن البصري وأيوب السختياني وسليمان التيمي وخلق من التابعين. وعن مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأمثال هؤلاء من الأئمة وكلام هؤلاء الأئمة وأتباعهم في ذلك كثير مشهور بل اشتهر عن أئمة السلف تكفير من قال القرآن مخلوق وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما ذكروا ذلك عن مالك بن أنس وغيره، ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد وكان من أصحاب ضرار بن عمرو ممن يقول القرآن مخلوق، فلما ناظر الشافعي وقال له القرآن مخلوق، قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم. ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال كان في كتابي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب ألا أني أعلم حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد فسأل حفص عبد الله قال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتج عليه وطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وكفر حفصا الفرد، قال الربيع فلقيت حفصا في المسجد بعد هذا فقال: أراد الشافعي قتلي.

وأما مالك بن أنس فنقل عنه من غير وجه الرد على من يقول القرآن مخلوق واستتابته، وهذا المشهور عنه متفق عليه بين أصحابه، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني قال فيه: وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأثبتوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفره، وقد ذمه الله وعابه وأوعده عذابه وتوعده حيث قال: " سأصليه سقر " فلما أوعد الله سقر لمن قال: " إن هذا إلا قول البشر " علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر.

محنة القول بخلق القرآن ونصر الله الحق بأحمد بن حنبل

وأما أحمد بن حنبل فكلامه في مثل هذا مشهور متواتر، وهو الذي اشتهر بمحنة هؤلاء الجهمية، فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يحبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق وإما بالعزل عن الولاية وإما بالحبس أو بالضرب وكفروا من خالفهم، فثبت الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإطلاق القول أن من قال إنه مخلوق فقد كفر.

وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى فهذه مناقضة لنص القرآن فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق فهو في المعنى موافق له فلذلك كفره السلف.

قال البخاري في كتاب خلق الأفعال قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، قال: وقال عبد الله بن المبارك من قال " إني أنا الله لا إله إلا أنا " مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك، قال: وقال ابن المبارك: لا نقول كما قالت الجهمية أنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه.

وقال: من قال " لا إله إلا الله " مخلوق فهو كافر، وإنا نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال: وقال علي بن عاصم: ما الذين قالوا أن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم.

نقول البخاري في تكفير السلف للجهمية في خلق القرآن

قال البخاري: وكان إسماعيل بن أبي إدريس يسميهم زنادقة العراق، وقيل له: سمعت أحدا يقول القرآن مخلوق؟ فقال: هؤلاء الزنادقة. قال: وقال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد - وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق - فقال: كيف يصنعون ب " قل هو الله أحد " كيف يصنعون بقوله " إني أنا الله لا إله إلا أنا " ؟ قال: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، قال: وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال " أنا ربكم الأعلى " ؟ وزعموا أن هذا مخلوق والذي قال " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق. فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه.

ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه، كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني " ومن قال هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفرا فقول هؤلاء أيضا كفر. ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب وموسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع على إله موسى وإني لأظنه كاذبا " وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه.

تفنيد قولهم "إن الله خلق كلامه في الشجرة فسمعه موسى منها"

ولكن هؤلاء يقولون: إذا خلق كلاما في غيره صار هو المتكلم به وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة:

أحدها: أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقا معتادا ونطقا خارجا عن المعتاد، قال تعالى " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " وقال تعالى: " حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ". وقال تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ". وقد قال تعالى: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي ﷺ وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاما في غيره كان هو المتكلم به كان هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه فلو كان متكلما بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون:

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذي يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق فأولئك يجعلون الجميع مخلوقا وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية بسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام سلط الله... أعداء الدين، فإن الله يقول: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " وأي معروف وأعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟

ما خلقه الله في مخلوقاته والأعراض فهي المتصفة به لا هو

الوجه الثاني: أن يقال لهؤلاء الضالين: ما خلقه الله في غيره من الكلام وسائر الصفات فإنما يعود حكمه على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق الله في بعض الأجسام حركة أو طعما أو لونا أو ريحا كان ذلك الجسم هو المتحرك المتلون المطعوم، وإذا خلق بمحل حياة أو علما أو قدرة أو إرادة أو كلاما كان ذلك المحل هو الحي العالم القادر المريد المتكلم، فإذا خلق كلاما في الشجرة أو في غيرها من الأجسام كان ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام، كما لو خلق فيه إرادة أو حياة أو علما، ولا يكون الله هو المتكلم به، كما إذا خلق فيه حياة أو قدرة أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو الحي به والقادر به والسميع به والبصير به، فكما أنه سبحانه لا يجوز أن يكون متصفا بما خلقه من الصفات المشروطة بالحياة وغير المشروطة بالحياة، فلا يكون هو المتحرك بما خلقه في غيره من الحركات، ولا المصوت بما خلقه في غيره من الأصوات ولا سمعه ولا بصره وقدرته ما خلقه في غيره من السمع والبصر والقدرة فكذلك لا يكون كلامه ما خلقه في غيره من الكلام ولا يكون متكلما بذلك الكلام.

الأسماء المشتقة من المصدر يسمى بها من قام به مسمى المصدر

الوجه الثالث: أن الاسم المشتق من معنى لا يتحقق بدون ذلك المعنى، فاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعال التفضيل يمتنع ثبوت معناها دون معنى المصدر التي هي مشتقة منه، والناس متفقون على أنه لا يكون متحرك ولا متكلم إلا بحركة وكلام، فلا يكون مريد إلا بإرادة، وكذلك لا يكون عالم إلا بعلم ولا قادر إلا بقدرة ونحو ذلك.

ثم هذه الأسماء المشتقة من المصدر إنما يسمى بها من قام به مسمى المصدر، فإنما يسمى بالحي من قامت به الحياة، وبالمتحرك من قامت به الحركة، وبالعالم من قام به العلم، وبالقادر من قامت به القدرة، فأما من لم يقم به مسمى المصدر فيمتنع أن يسمى باسم الفاعل ونحوه من الصفات، وهذا معلوم بالاعتبار في جميع النظائر.

وذلك لأن اسم الفاعل ونحوه من المشتقات هو مركب يدل على الذات وعلى الصفة والمركب يمتنع تحققه بدون تحقق مفرداته، وهذا كما أنه ثابت في الأسماء المشتقة فكذلك في الأفعال مثل تكلم وكلم ويتكلم وعلم ويعلم وسمع ويسمع ورأى ويرى ونحو ذلك سواء، قيل أن الفعل المشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل، لا نزاع بين الناس أن الفاعل الفعل هو فاعل المصدر، فإذا قيل كلم أو علم أو تكلم أو تعلم ففاعل التكليم والتعليم هو المكلم والمعلم، وكذلك التعلم والتكلم، والفاعل هو الذي قام به المصدر الذي هو التكليم والتعليم والتكلم والتعلم، فإذا قيل: تكلم فلان أو كلم فلان فلانا ففلان هو المتكلم والمكلم، فقوله تعالى: " وكلم الله موسى تكليما " وقوله: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات " وقوله: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " يقتضي أن الله هو المكلم، فكما يمتنع أن يقال: هو المتكلم بكلام قائم بغيره يمتنع أن يقال كلم بكلام قائم بغيره.

الرد على الجهمية في مسألة الكلام من وجوه أخر

فهذه ثلاثة أوجه.. أحدها: أنه يلزم الجهمية على قولهم أن يكون كل كلام خلقه الله كلاما له، إذ لا معنى لكون القرآن كلام الله إلا كونه خلقه، وكل من فعل كلاما ولو في غيره كان متكلما به عندهم، وليس للكلام عندهم مدلول يقوم بذات الرب تعالى لو كان مدلول قائما يدل لكونه خلق صوتا في محل والدليل يجب طرده فيجب أن يكون كل صوت يخلقه له كذلك وهم يجوزون أن يكون الصوت المخلوق على جميع الصفات، فلا يبقى فرق بين الصوت الذي هو كلام الله تعالى على قولهم والصوت الذي هو ليس بكلام.

الثاني: أن الصفة إذا قامت بمحل كالعلم والقدرة والكلام والحركة عاد حكمه إلى ذلك المحل ولا يعود حكمه إلى غيره.

الثالث: أنه مشتق المصدر منه اسم الفاعل والصفة المشبهة به ونحو ذلك ولا يشتق ذلك لغيره وهذا كله بين ظاهر وهو ما يبين قول السلف والأئمة أن من قال إن الله خلق كلاما في غيره لزمه أن يكون حكم التكلم عائدا إلى ذلك المحل لا إلى الله.

الرابع: أن الله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال " تكليما "، قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولا أو كتب إليه كتابا بل كلمه منه إليه.

الخامس: أن الله فضل موسى بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه وقال " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا " الآية، فكان تكليم موسى من وراء الحجاب، وقال " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " وقال " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعد - إلى قوله - وكلم الله موسى تكليما " والوحي هو ما نزله الله على قلوب الأنبياء بلا واسطة فلو كان تكليمه لموسى إنما هو صوت خلقه في الهواء لكان وحي الأنبياء أفضل منه، لأن أولئك عرفوا المعنى المقصود بلا واسطة، وموسى إنما عرفه بواسطة، ولهذا كان غلاة الجهمية من الاتحادية ونحوهم يدعون أن ما يحصل لهم من الإلهام أفضل مما حصل لموسى بن عمران وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.

مذهب غلاة الجهمية تعطيل للرسالة

ولما فهم السلف حقيقة مذهب هؤلاء وأنه يقتضي تعطيل الرسالة فإن الرسل إنما بعثوا ليبلغوا كلام الله، بل يقتضي تعطيل التوحيد، فإن من لا يتكلم ولا يقوم به علم ولا حياة هو كالموات، بل من لا تقوم به الصفات فهو عدم محض إذ ذات لا صفة لها إنما يمكن تقديرها في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص.

فكان قول هؤلاء مضاهيا لقول المتفلسفة الدهرية الذي يجعلون وجود الرب وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لا صفة له، وقد علم أن المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الذهن، وهؤلاء الدهرية ينكرون أيضا حقيقة تكليمه لموسى ويقولون إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال، وهكذا يقولون في الوحي إلى جميع الأنبياء وحقيقة قولهم أن القرآن قول البشر لكنه صدر عن نفس صافية شريفة، وإذا كانت المعتزلة خيرا من هؤلاء وقد كفر السلف من يقول بقولهم فكيف هؤلاء؟

وكلام السلف والأئمة في مثل هؤلاء لا يحصى قال حرب بن إسماعيل الكرماني: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكيف يكون شيء من الرب عز ذكره مخلوقا؟ ولو كان كما قالوا لزمهم أن يقولوا علم الله وقدرته ومشيئته مخلوقة، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يقولوا كان الله تبارك اسمه ولا علم ولا قدرة ولا مشيئة، وهو الكفر المحض الواضح لم يزل الله عالما متكلما له المشيئة في خلقه، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر.

وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق، فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول " ولكن حق القول مني " ولا يكون من الله شيء مخلوق، وهذا القول قاله غير واحد من السلف.

وقال أحمد بن حنبل: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وهذا معنى قول السلف القرآن كلام الله منه بدا ومنه خرج وإليه يعود كما في الحديث الذي رواه أحمد غيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله ﷺ: " إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه " يعني القرآن. وقد روي أيضا عن أبي أمامة مرفوعا. وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب، لما سمع قرآن مسيلمة: "ويحكم! أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاما لم يخرج من إل" - أي من رب.

تفسير قول السلف في القرآن: "منه بدأ ومنه خرج"

وليس معنى قول السلف والأئمة: أنه منه خرج ومنه بدأ، أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.

وأيضا فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي ﷺ ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله ﷺ وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام البارئ والصوت صوت القارئ قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ". وقال ﷺ: " زينوا القرآن بأصواتكم ".

ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله " ولكن حق القول مني " فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات.

و"من" هي لابتداء الغاية، فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه " وقوله في المسيح " وروح منه " وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله " وما بكم من نعمة فمن الله ".

وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله " ولكن حق القول مني " وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه ردا على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول إنه لم ينزل منه قال تعالى: " قل أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " وقال تعالى " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وروح القدس هو جبريل، كم قال في الآية الأخرى: " نزل به الروح الأمين على قلبك " وقال: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وقال هنا " نزله روح القدس من ربك " فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " وقوله " حم، تنزيل من الرحمن الرحيم " وقوله " الم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " وقوله " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ".

القرآن منزل من الله لا من اللوح المحفوظ، واستعمال لفظ الإنزال فيه

فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال " أنزل من السماء ماء " فذكر المطر في غير وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه، وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله: " وأنزلنا الحديد " لأن الحديد ينزل من رؤوس الجبال لا ينزل من السماء، وكذلك الحيوان فإن الذكر ينزل الماء في الإناث، فلم يقل فيه من السماء، ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد، لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة فيكون بنو إسرائيل قد أقروا الألواح التي كتبها الله، وأما المسلمون فأخذوه عن محمد ﷺ، ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح، فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد ﷺ على قول هؤلاء الجهمية، والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء وإنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة، وفرقه عليهم لأجل ذلك، فقال: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " وقال تعالى: " وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ".

القرآن كلام الله بلغه جبريل لمحمد، ومحمد للناس برسالتهما

ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوبا كانت العبارة عبارة جبريل وكان القرآن كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاما ولم يقدر أن يتكلم به وهذا خلاف دين المسلمين.

وإن احتج محتج بقوله: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين " قيل له فقد قال في الآية الأخرى " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون " فالرسول في هذه الآية محمد ﷺ والرسول في الأخرى جبريل، فلو أريد به أن الرسول أحدث عبارته لتناقض الخبران، فعلم أنه أضافه إليه إضافة تبليغ لا إضافة إحداث ولهذا قال " لقول رسول " ولم يقل ملك ولا نبي، ولا ريب أن الرسول بلغه كما قال " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " فكان النبي ﷺ يعرض على الناس في الموسم ويقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لا بلغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ".

ولما أنزل الله: " ألم * غلبت الروم " خرج أبو بكر الصديق فقرأها على الناس فقالوا: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.

القرآن منه قديم محدث بالنسبة إلى تنزيله

وإن احتج بقوله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قيل له هذه الآية حجة عليك، فإنه لما قال " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث، لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاما حلالا ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي أنزل جديدا، فإن الله كان ينزل القرآن شيئا بعد شيء، فالمنزل أولا هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخرا، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال " كالعرجون القديم " وقال " تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال " وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقال " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وكذلك قوله " جعلناه قرآنا عربيا " لم يقل: "جعلناه" فقط حتى يظن أنه بمعنى خلقناه ولكن قال " جعلناه قرآنا عربيا " أي صيرناه عربيا لأنه قد كان قادرا على أن ينزله عجميا، فلما أنزله عربيا كان قد جعله عربيا دون عجمي. وهذه المسألة في أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم، والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع.. والله أعلم.

فتوى أخرى لشيخ الإسلام في تكليم الله لموسى عليه السلام، وهل هو بحرف وصوت أم لا؟ ومن أنكره

هامش
ج1 ص153 - هامش "منهاج السنة".

1.مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث +{مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله/اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع}

 

ج1.اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة 

 للغة ومنها القديم والمحدث

ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره سواء كان أزليا أو لم يكن كما قال تعالى: " حتى عاد كالعرجون القديم " وقال: " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " وقوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " وقال: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون " وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب، ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى: " ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث " وهذا يقتضي أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم، وهذا موافق للغة العرب الذي نزل بها القرآن ونظير هذا لفظ القضاء فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة وإن كان ذلك في وقتها كما قال تعالى: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " وقوله " فإذا قضيتم مناسككم " ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ القضاء مختصا بفعلها في غير وقتها، ولفظ الأداء مختصا بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول، ثم يقولون قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر، ولهذا يتنازعون في مراد النبي ﷺ: " فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " وفي لفظ " فأتموا " فيظنون أن بين اللفظين خلافا وليس الأمر كذلك بل قوله " فاقضوا " كقوله " فأتموا " لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان: وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به، وأن هذا ليس وقتا في حق غيرهما.

الغلط في فهم كلام الله ورسوله بتفسيرهما باصطلاحات العلماء

ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها، وما ذكر في مسمى الكلام مما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب فقال: واعلم إن قلت في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكي وإنما تحكي بعد القول ما كان كلاما قولا وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب، ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء، ولهذا سأل الخليل أصحابه: كيف تنطقون بالزاي من زيد؟ فقالوا: زاي، فقال: نطقتم بالاسم، والحرف زه. فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء.

اصطلاح النحاة في تقسيم الكلمة ومن اعترض عليه

وكثيرا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا حرف من الغريب يعبرون بذلك عن الاسم التام، فقوله ﷺ: " فله بكل حرف مثله " بقوله " ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " وعلى نهج ذلك، وذلك حرف والكتاب حرف ونحو ذلك وقد قيل إن ذلك أحرف والكتاب أحرف وروي ذلك مفسرا في بعض الطرق.

والنحاة اصطلحوا خاصا فجعلوا لفظ الكلمة يراد به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني، لأن سيبويه قال في أول كتابه: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، فجعل هذا حرفا خاصا، وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب، وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفا، فقيد كلامه بأن قال: وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلي إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء، كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها، وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه كما يقال: الاسم ينقسم إلى معرب ومبني.

وجاء الجزولي وغيره فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم فقالوا كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له، وأراد بذلك الاعتراض على قول الزجاج: الكلام اسم وفعل وحرف، والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال، ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات التي لا توجد كليات إلا في الذهن، كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم، وقسمة الاسم إلى المعرب والمبني، فإن المقسم هنا هو معنى عقلي كلي لا يكون كليا إلا في الذهن.

فصل في تقسيم النحاة والمقرئين للحروف ومعنى الحرف في اللغة

ولفظ الحرف يراد به حروف المعاني التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، مثل حروف الجر والجزم، وحرفي التنفيس، والحروف المشبهة للأفعال مثل إن وأخواتها، وهذه الحروف لها أقسام معروفة في كتب العربية كما يقسمونها بحسب الإعراب إلى ما يختص بالأسماء وإلى ما يختص بالأفعال، ويقولون ما اختص بأحد النوعين ولم يكن كالجزء منه كان عاملا كما تعمل حروف الجر وإن وأخواتها في الأسماء، وكما تعمل النواصب والجوازم في الأفعال، بخلاف حرف التعريف وحرفي التنفيس كالسين وسوف فإنهما لا يعملان لأنهما كالجزء من الكلمة، ويقولون كان القياس في " ما " أنها لا تعمل لأنها تدخل على الجمل الاسمية والفعلية، ولكن أهل الحجاز أعملوها لمشابهتها لليس وبلغتهم جاء القرآن في قوله " ما هذا بشرا - ما هن أمهاتهم ".

ويقسمون الحروف باعتبار معانيها إلى حروف استفهام وحروف نفي وحروف تحضيض وغير ذلك، ويقسمونها باعتبار بنيتها كما تقسم الأفعال والأسماء إلى مفرد وثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي، فاسم الحرف هنا منقول عن اللغة إلى عرف النحاة بالتخصيص، وإلا فلفظ الحرف في اللغة يتناول الأسماء والحروف والأفعال، وحروف الهجاء تسمى حروفا وهي أسماء كالحروف المذكورة في أوائل السور لأن مسماها هو الحرف الذي هو حرف الكلمة.

وتقسم تقسيما آخر إلى حروف حلقية وشفهية والمذكورة في أوائل السور في القرآن هي نصف الحروف واشتملت من كل صنف على أشرف نصفيه: على نصف الحلقية والشفهية والمطبقة والمصمتة، وغير ذلك من أجناس الحروف.

فإن لفظ الحرف أصله في اللغة هو الحد والطرف كما يقال حروف الرغيف وحروف الجبل، قال الجوهري: حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الحبل وهو أعلاه المحدد، ومنه قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف - إلى قوله - والآخرة " فإن طرف الشيء إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقرا فلهذا كان من عبد الله على السراء دون الضراء عابدا له على حرف تارة يظهره وتارة ينقلب على وجهه كالواقف على حرف الجبل، فسميت حروف الكلام حروفا لأنها طرف الكلام وحده ومنتهاه، إذا كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاه حده وحرفه القائم بشفتيه ولسانه، ولهذا قال تعالى: " ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين " فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا.

تعليم الإنسان بالقلم وأول ما أنزل الله تعالى من القرآن

ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفا فيراد بالحرف الشكل المخصوص ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه، ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق - إلى قوله - ما لم يعلم " فبين سبحانه في أول ما أنزله أنه سبحانه هو الخالق الهادي الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، كما قال موسى " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " فالخالق يتناول كل ما سواه من المخلوقات ثم خص الإنسان فقال: " خلق الإنسان من علق " ثم ذكر إنه علم فإن الهدى والتعليم هو كمال المخلوقات.

والعلم له ثلاث مراتب: علم بالجنان، وعبارة باللسان، وخط بالبنان، ولهذا قيل إن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي، وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، واللسان والبنان، لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات في أنفسها والله خالق كل شيء، وأما الذهني الجناني فهو العلم بها الذي في القلوب، والعبارة عن ذلك هو اللساني، وكتابة ذلك هو الرسمي البناني، وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ وذلك يستلزم تعليم العلم فقال: " علم بالقلم " لأن التعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، وأطلق التعليم ثم خص فقال " علم الإنسان ما لم يعلم ".

تنازع الناس، هل الوجود عين الموجود

وقد تنازع الناس في وجود كل شيء، هل هو عين ماهيته أم لا، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين أن الصواب من ذلك أنه قد يراد بالوجود ما هو ثابت في الأعيان، ليس ما هو ماهيتها المتصورة في الأذهان، لكن الله خلق الموجود الثابت في الأعيان وعلم الماهيات المتصورة في الأذهان، كما أنزل بيان ذلك في أول سورة أنزلها من القرآن، وقد يراد بالوجوه والماهية كليهما ما هو متحقق في الأعيان، وما هو متحقق في الأذهان، فإذا أريد بهذا وهذا ما هو متحقق في الأعيان أو ما هو متصور في الأذهان، فليس هما اثنين بل هذا هو هذا، وكذلك الذهن إذا تصور شيئا فتلك الصورة هي المثال الذي تصورها وذلك هو وجودها الذهني الذي تتصوره الأذهان، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب.

ومن تدبر هذه المسائل وأمثالها تبين له أن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء " ومن لم يجعل الله له نورا فما من نور ".

وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل وتفاصيلها في مواضع أخرى، فإن الناس كثر نزاعهم فيها حتى قيل: مسألة الكلام، حيرت عقول الأنام، ولكن سؤال هذين لا يحتمل البسط الكثير فإنهما يسألان بحسب ما سمعاه واعتقداه وتصوراه، فإذا عرف السائل أصل مسألته ولوازمها وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة تبين له أن من الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل فلا بد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه.

وجوب الاتفاق على ألفاظ الكتاب والسنة وتحكيم الأدلة في غيرها

ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني، فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان، وقد قال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ".

وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.

ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو جمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيبا من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث.

وكثير من الكتب المصنفة في أصول العلوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة، والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به، وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، وقد قال تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله " وقال تعالى: " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ". وقد خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه " ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد كتب في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصول كثيرة، ولكن هذا الجواب كتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة، والله تعالى يهدينا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه. والحمد لله رب العالمين.

فصل في بيان أن القرآن العظيم كلام الله العزيز العليم ليس شيء منه كلاما لغيره، لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما

قال الله تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الدين يتولونه والذي هم به مشركون، وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ". فأمره أن يقول: " نزله روح القدس من ربك بالحق "، والضمير في قوله " نزله " عائد على " ما " في قوله " بما ينزل " فالمراد به القرآن كما يدل عليه سياق الكلام، وقوله: " والله أعلم بما ينزل " فيه إخبار بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه منزل منه.

ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيدا بالإنزال منه كنزول القرآن، وقد يرد مقيدا بالإنزال من السماء ويراد به العلو، فيتنازل نزول المطر من السحاب ونزول الملائكة من عند الله وغير ذلك، وقد يرد مطلقا فلا يختص بنوع من الإنزال بل ربما يتناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " والإنزال من ظهور الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك فقوله " نزله روح القدس من ربك " بيان لنزول جبريل من الله عز وجل، فإن روح القدس هنا هو جبريل بدليل قوله تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " وهو الروح الأمين كما في قوله تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به روح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين " وفي قوله الأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه ولا ينقص، فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال تعالى في صفته في الآية الأخرى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين ".

فرق الجهمية القائلين بخلق القرآن

وفي قوله " منزل من ربك " دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والبخارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة جهميا، فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات، وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه، وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر، وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه، ولكن المعتزلة إن وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك، كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضا، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول: إن الله لا يتكلم أو يقول إنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون إنه يتكلم حقيقة لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء.

فالمقصود أن قوله " منزل من ربك " فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات، ولهذا قال السلف: منه بدأ، أي هو الذي تكلم به لم يبتدئ من غيره كما قال الخلقية.

ومنها أن قوله " منزل من ربك " فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي من العقل الفعال أو غيره كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة وهذا القول أعظم كفرا وضلالا من الذي قبله.

ومنها أن هذه الآية أيضا تبطل قول من قال إن القرآن العربي ليس منزلا من الله بل مخلوق إما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابية والأشعرية الذين يقولون: القرآن العربي ليس هو كلام الله وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام: الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمد فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون جبريل أخذه من اللوح المحفوظ أو غيره.

فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع على هذا القول، فإن هذا القرآن العربي لا بد له من متكلم تكلم به أولا قبل أن يصل إلينا، وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين: أحدهما أن أولئك يقولون إن المخلوق كلام الله وهم يقولون إنه ليس كلام الله لكن يسمى كلام الله مجازا هذا قول أئمتهم وجمهورهم، وقال طائفة من متأخريهم: بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراك اللفظي، لكن لفظ هذا الكلام ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به، ومع هذا لا يقولون إن المخلوق كلام الله حقيقة كما يقوله المعتزلة مع قولهم إنه كلام حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلاما لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة وهذا حقيقة قول الجهمية، ومن هذا الوجه نقول: المعتزلة أقرب، وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء وإنما ينازعونهم في اللفظ.

الثاني: أن هؤلاء يقولون: لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام، ومن هذا الوجه الكلابية خير من الخلقية في الظاهر، لكن جمهور الناس يقولون إن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا كلاما له حقيقة غير المخلوق، فإنهم يقولون إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، ومنهم من قال هو خمس معان.

وجمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام، والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في الأخبار المتواترة، وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمدا، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة ولم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله ومحبته ليصير ذلك القول كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة.

وقال جمهور العقلاء: نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك معنى القرآن، بل معاني هذا ليست معاني هذا... وكذلك معنى " قل هو الله أحد " ليس هو معنى " تبت يدا أبي لهب "، ولا معنى آية الكرسي معنى آية الدين، وقالوا: إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي.

ثم منهم من قال: الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد وإما ناف بها، وأما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع، وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ومنهم من اعترف بأنه ليس له عنه جواب كأبي حسن الآمدي وغيره.

إبطال قوله {نزله روح القدس من ربك} لما يخالف مذهب السلف

والمقصود هنا أن هذه الآية تبين بطلان هذا القول كما تثبت بطلان غيره فإن قوله " نزله روح القدس من ربك " يقتضي نزول القرآن من ربه والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، بدليل قوله " فإذا قرأت القرآن " وإنما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المحددة، وأيضا فضمير المفعول في قوله " نزله " عائد إلى " ما " في قوله " والله أعلم بما ينزل " فالذي أنزله الله هو الذي نزله روح القدس، فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله، فلا يكون شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة ولا نزله من نفسه.

وأيضا فإنه قال عقب هذه الآية " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي " الآية. وهم كانوا يقولون إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، ولم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط، بدليل قوله " لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه فجعلوه هو الذي يعلم محمدا القرآن لسان أعجمي، والقرآن لسان عربي مبين، فلو كان الكفار قالوا يعلمه معانيه فقط لم يكن هذا ردا لقولهم، فإن الإنسان قد يتعلم من الأعجمي شيئا بلغة ذلك الأعجمي ويعبر عنه بعباراته، وقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يقولون هو تعلمه من شخص كان بمكة أعجمي، قيل إنه كان مولى لابن الحضرمي.

بطلان التفريق بين كلام الله وكتاب الله والقرآن

وإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشرا والله أبطل ذلك بأن لسان ذاك أعجمي وهذا لسان عربي مبين، علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين، وأن محمدا لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس، وإذا كان روح القدس نزل به من الله، علم أنه سمعه منه ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله أن القرآن الذي هو اللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله، وكذلك قوله " هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " الآية. والكتاب اسم للكلام العربي بالضرورة والاتفاق، فإن الكلابية أو بعضهم يفرق بين كلام الله وكتاب الله، فيقول كلام الله هو المعنى القائم بالذات وهو غير مخلوق، وكتابه هو المنظوم المؤلف العربي وهو المخلوق، والقرآن يراد به تارة وهذا وتارة هذا، والله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآنا وكتابا وكلاما، فقال تعالى " تلك آيات القرآن وكتاب مبين " وقال " طسم، تلك آيات الكتاب المبين " وقال " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " الآية، فبين أن الذي سمعوه هو القرآن وهو الكتاب وقال " بل هو قرآن " الآية، وقال " إنه لقرآن كريم " الآية وقال " يتلو صحفا " الآية، وقال " والطور " الآية، وقال " ولو نزلنا عليك كتابا " الآية، لكن لفظ الكتاب قد يراد به المكتوب فيكون هو الكلام وقد يراد به ما يكتب فيه كقوله " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال " ونخرج له يوم القيامة كتابا " الآية.

نصوص الآيات في أن القرآن العربي كلام الله أنزله كتابا مفصلا

والمقصود هنا أن قوله " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " يتناول نزول القرآن العربي على كل قول، وقد أخبر أن " الذين آتاهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم. وقال إنهم يعلمون ذلك لم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه، والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل، فعلم أن القرآن العربي ينزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا محمد ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه.

وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله " إنا أنزلناه في ليلة القدر " أنه أنزله إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى " بل هو قرآن مجيد " الآية. وقال " إنه لقرآن كريم " الآية، وقال: " إنها تذكرة " الآية، وقال " وإنه في أم الكتاب " الآية، وكونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو غير ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة وآثار السلف، ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها، فيقابل من الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنها فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف وهو حق، فإذا كان ما يخلقه ثابتا عنه قبل كتبه أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به.

تلقى جبريل القرآن العربي عن الله تعالى لا معناه

ومن قال إن جبريل أخذ القرآن عن الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: منها أن يقال إن الله تعالى كتب التوراة لموسى بيده فبنوا إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه فيه، فإن كان محمد أخذه من جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلا من محمد بدرجة، ومن قال إنه ألقي إلى جبريل معاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي، فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما، وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين كما قال تعالى: " وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي " وقال " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " وقد أوحى إلى سائر النبيين، فيكون هذا الوحي الذي لا يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلا من أخذ محمد القرآن عن جبريل لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء، ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، قال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد، وادعى أن أخذه عن الله أعلا من أخذ الرسول للقرآن، ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر، وإن هذا القول من جنسه.

انقسام كل من التكليم والوحي إلى عام وخاص

وأيضا فالله تعالى يقول " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " الآية. ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، وهذا يدل على أمور على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص، فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص، والتكليم العام هو المقسم في قوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " الآية، والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس قسما منه، وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى " فاستمع لما يوحى " وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى، وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات، فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي هو لآحاد العباد، ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم وراء من حجاب وبين إرسال الرسول يوحى بإذنه ما يشاء، فدل على أن التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى أمر غير الإيحاء.

وأيضا فقوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقوله " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره، وكذلك قوله تعالى " بلغ ما أنزل إليك من ربك " فإنه يدل على أنه مبلغ ما أنزل إليه من ربه وأنه مأمور بتبليغ ذلك.

وأيضا فهم يقولون: إنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله، وإن كان سمع البعض فقد استمع بعضه فقد تبعض، وكلاهما ينقض قولهم، فإنهم يقولون إنه معنى واحد ولا يتعدد ولا يتبعض، فإن كان ما سمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله وأنزل عليه شيئا في كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة، وإن كان الواحد من هؤلاء إنما سمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.

وأيضا فقوله " وكلم الله موسى تكليما " وقوله " ولما جاء موسى لميقاتنا " وقوله تعالى " وناديناه من جانب الطور الأيمن " وقوله " فلما أتاها نودي " الآيات دليل على تكليم موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر - ودليل أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا لا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا، وقد قال تعالى " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار - إلى قوله - رب العالمين ".

توقيت نداء الله عباده يوم القيامة وخطابه للملائكة

وأيضا فقوله " فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك " وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك و " لما " فيها من معنى الظرف، كما في قوله " وإنه لما قام عبد الله يدعوه " ومثل هذا قوله " ويوم يناديهم فيقول أين شرائي الذين كنتم تزعمون " " ويم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " فإن النداء وقت بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.

ومثل هذا قوله تعالى " وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وقوله " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته، ومن هؤلاء من قال إنه معنى واحد لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة، ومنهم من قال بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في مقارنة وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته.

موافقة الأشعرية والمعتزلة للسلف من وجه ومخالفتهما من وجه

ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات، وكل هؤلاء يقولون إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك في المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم بكلام الله بمشيئته وقدرته، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة ما يجعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عنه، وعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم، لا إنه حينئذ نودي، ولهذا يقولون إنه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس يكلم خلقه، وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم أنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه.

أما كون قولهم أقرب، فلأنهم يثبتون كلاما قائما بنفس الله وهذا قول السلف بخلاف الخليقة الذين يقولون ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره، فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف، وأما كون الخلقية أقرب فلأنهم يقولون إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف، وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه فليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته، وهم يقولون الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل، والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات، ومذهب السلف أنه صفة فعل وصفة ذات معا، فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه.

واختلافهم في أفعاله ومسائل القدر بنسبة اختلافهم في كلامه تعالى فإن المعتزلة أنه يفعل لحكمة مقصودة وإرادة الإحسان إلى العباد، لكن لا يثبتون لفعله حكمة تعود إليه، وأولئك يقولون لا يفعل لحكمة ولا لمقصود أصلا فأولئك أثبتوا حكمة لكن لا تقوم به، وهؤلاء لا يثبتون له قصدا يتصف به ولا حكمة تعود إليه، وكذلك في الكلام أولئك أثبتوا كلاما هو فعله لا يقوم به، وهؤلاء يقولون ما لا يقوم به لا تعود حكمته إليه، والفريقان يمنعون أن تقوم به حكمة مرادة له، كما يمنع الفريقان أن يقوم به كلام وفعل يريده، وقول أولئك أقرب إلى قول السلف والفقهاء إذ أثبتوا الحكمة والمصلحة في أفعاله وأحكامه، وأثبتوا كلاما يتكلم به بقدرته ومشيئته، وقول هؤلاء أقرب إلى قول السلف إذ أثبتوا الصفات وقالوا: لا يوصف بمجرد المخلوق المفصل عنه الذي لم يقم به أصلا، ولا يعود إليه حكم شيء لم يقم به، فلا يكون متكلما بكلام لم يقم به، ولا قديرا بقدرة لم تقم به.

فكل من المعتزلة والأشعرية في مسائل كلام الله وأفعال الله وافقوا السلف والأئمة من وجه وخالفوهم من وجه، وليس قول أحدهم قول السلف دون الآخر، لكن الأشعرية في جنس مسائل الصفات والقدر أقرب إلى قول السلف والأئمة من المعتزلة.

معنى قوله {إنه لقول رسول كريم} أنه بلغه لا أنه أنشأه

فإن قيل: فقد قال تعالى " إنه لقول رسول كريم " وهذا يدل على أن الرسول أحدث الكلام العربي، قيل: هذا باطل، وذلك أن الله ذكر هذا في موضعين والرسول في أحد الموضعين محمد والرسول في الآية الأخرى جبريل، قال تعالى في سورة الحاقة " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون " الآية، فالرسول هنا محمد ﷺ، وقال في سورة التكوير " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين " فالرسول هنا جبريل، فلو كان أضافه إلى الرسول لكونه أحدث حروفه أو أحدث منه شيئا لكان الخبران متناقضين، فإنه إن كان أحدهما الذي أحدثها امتنع أن يكون الآخر هو الذي أحدثها.

وأيضا فإنه قال " لقول رسول كريم " ولم يقل لقول ملك ولا نبي، ولفظ الرسول يستلزم مرسلا له، فدل ذلك على أن الرسول مبلغ له عن مرسله لا إنه أنشأ منه شيئا من جهة نفسه، وهذا يدل على أنه أضافه إلى الرسول لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأ منه شيئا وابتدأه.

المبلغون يبلغون كلام الرسول بحركاتهم وأصواتهم

وأيضا فإن الله قد كفر من جعله قول البشر بقوله " إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر "، ومحمد بشر، فمن قال إنه قول محمد فقد كفر، ولا يفرق بين أن يقول بشر أو جني أو ملك، فمن جعله قولا لأحد من هؤلاء فقد كفر، ومع هذا فقد قال " إنه لقول رسول كريم، ما هو بقول شاعر " فجعله قول الرسول البشري مع تكفيره من يقول إنه قول البشر، فعلم أن المراد بذلك أن الرسول بلغه عن مرسله، لا أنه قوله من تلقاء نفسه، وهو كلام الله تعالى الذي أرسله، كما قال تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " فالذي بلغه الرسول هو كلام الله تعالى لا كلامه، ولهذا كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموقف ويقول " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " رواه أبو داود وغيره، والكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا.

وموسى سمع كلام الله بلا واسطة والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى سماع مطلق بلا واسطة، وسماع الناس سماع مقيد بواسطة، كما قال تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا التكليم أو من وراء حجاب " ففرق بين التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى بين التكليم بواسطة الرسول كما كلم الأنبياء بإرسال رسوله إليهم، والناس يعلمون أن النبي ﷺ إذا تكلم بكلام تكلم بحروفه ومعانيه بصوته ﷺ ثم المبلغون عنه يبلغون كلامه بحركاتهم وأصواتهم كما قال ﷺ: " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه " فالمستمع منه مبلغ حديثه كما سمعه، لكن بصوت نفسه لا بصوت الرسول، فالكلام هو كلام الرسول تكلم به بصوته، والمبلغ بلغ كلام رسول الله بصوت نفسه.

شبهة القائلين بخلق القرآن والقائلين أن صوت العبد به غير مخلوق

وإذا كان هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بذلك، ولهذا قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقال النبي ﷺ: " زينوا القرآن بأصواتكم " فجعل الكلام كلام البارئ، وجعل الصوت الذي يقرؤه به العبد صوت القارئ، وأصوات العباد ليست هي الصوت الذي ينادي الله به ويتكلم به، كما نطقت النصوص بذلك بل ولا مثله، فإن الله تعالى " ليس كمثله شيء " لا في ذاته ولا أفعاله، فليس علمه مثل علم المخلوقين ولا قدرته مثل قدرتهم، ولا كلامه مثل كلامهم، ولا نداؤه مثل ندائهم، ولا صوته مثل أصواتهم، فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ليس هو كلام الله أو هو كلام غير الله فهو ملحد مبتدع ضال، ومن قال إن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع، بل هذا القرآن هو كلام الله وهو مثبت في المصاحف، وكلام الله مبلغ عنه، مسموع من القراء ليس مسموعا منه، فالإنسان يرى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة ويراها في ماء أو مرآة، فهذه رؤية مقيدة بالواسطة، وتلك مطلقة بطريق المباشرة، ويسمع من المبلغ عنه بواسطة، والمقصود بالسماع هو كلامه في الموضعين كما أن المقصود بالرؤية هو المرئي في الموضعين.

فمن عرف ما بين الحالين من الاجتماع والافتراق والاختلاف والاتفاق زالت عنه الشبهة التي تصيب كثيرا من الناس في هذا الباب، فإن طائفة قالت هذا المسموع كلام الله، والمسموع صوت العبد وصوته مخلوق، فكلام الله مخلوق، وهذا جهل فإنه مسموع من المبلغ، ولا يلزم إذا كان صوت المبلغ مخلوقا أن يكون نفس الكلام مخلوقا، وطائفة قالت: هذا المسموع صوت العبد وهو مخلوق والقرآن ليس بمخلوق، ولا يكون هذا المسموع كلام الله، وهذا جهل، فإن المخلوق هو الصوت لا نفس الكلام الذي يسمع من المتكلم به ومن المبلغ عنه، وطائفة قالت: هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق، فيكون هذا الصوت غير مخلوق، وهذا جهل، فإنه إذا قيل هذا كلام الله فالمشار إليه هو الكلام من حيث هو، وهو الثابت إذا سمع من الله وإذا سمع من المبلغ عنه، وإذا قيل للمسموع أنه كلام الله فهو كلام الله مسموعا من المبلغ عنه لا مسموعا منه، فهو مسموع بواسطة صوت العبد وصوت العبد مخلوق، وأما كلام الله منه فهو غير مخلوق حيث ما تصرف، وهذه نكت قد بسط الكلام فيها في غير هذا الموضع.
===========
ج2.اختلاف أدلة المتكلمين على 

 إثبات الصانع وما ترتب عليه من 

 البدع}
-----------------------------------
فصل في اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع

فإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفريق والاختلاف؟ قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع.

وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على... بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في الأدلة في المسألة المتقدمة فتارة يثبتونها بان الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وهي حادثة، وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام قد تخلو عن بعض أنواع الأعراض، وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون إن الأعراض يمتنع بقاؤها لأن العرض لا يبقى زمانين، وهي الطريقة التي اختارها الأمدي وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى والجويني والباجي وغيرهم.

الاستدلال على حدوث العالم بملازمة الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها

وأما الهشامية والكرامية وغيرهما من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم يقولون إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث كما في قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل فإنهم قالوا أن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة.

والناس متنازعون في السكون هل هو أمر وجودي أو عدمي، فمن قال إنه وجودي قال الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون فإذا انتفت عنه الحركة فالسكون به وجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت أن السكون وجودي، فمن قال إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث كما هو في قول الكرامية. وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بلى ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا، ولا يقولون إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء.

وكان كثير من أهل الكلام يقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، بناء على أن هذه مقدمة ظاهرة بأن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده، وقارن الحوادث فهو حادث، وما كان بعده فهو حادث، وهذا الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحوادث المعينة أو ما لا يسبق الحادث المعين فهو حق بلا ريب ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث حكم ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا ما أريد الحوادث الأمور التي تكون شيئا بعد شيء لا إلى أول وقيل إنه لا يخلو عنها وما لم يخل فهو حادث لم يكن ذلك ظاهرا ولا بينا، بل هذا المقام، حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام، ولهذا صار المستدلون بقولهم، ما لا يخطر عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقا قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.

نظريتا "حوادث لا أول لها" و"حدوث ما لازم الحوادث"

وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال: فقيل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقا، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.

وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقا، وليس كل ما يقارب حادثا بعد حادث لا إلى أول يجوز أن يكون حادثا، بل يجوز أن يكون قديما سواء كان واجبا بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول والفاعلية ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك كأرسطو وأتباعه ثامبطوس والإسكندر الأفرديوسي وبوملس والفارابي وابن سينا وأمثالهم، وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بهذا وقيل بل إن كان الملتزم للحوادث ممكنا بنفسه وجب أن يكون حادثا فإن كان واجبا بنفسه لم يجز أن يكن حادثا، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة وهو قول جماهير أهل الحديث.

مأخذ خلق القرآن من نظرية امتناع 

 قيام الحوادث به تعالى

وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، وما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث، لأنه إن كان مفعولا ملتزما للحوادث امتنع أن يكون قديما، فإن القديم المعلول لا يكون قديما إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله بحيث يكون معه أزليا لا يتقدم عنه، وهذا ممتنع فإن من استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجبا بذاته يستلزم معلوله في الأزل فإن الحوادث المتعاقبة شيئا بعد شيء لا يكون مجموعها في الأول ولا يكون شيء منها أزليا بل الأزلي هو ذاتها واحد بعد واحد الموجب بذاته الملتزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئا بعد شيء سواء كان صادرا عنه بواسطة أو بغير واسطة فإن ما كان واحدا بعد واحد يكون متعاقبا حادثا شيئا بعد شيء فيمتنع أن يكون معلولا مقاربا لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل أن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئا بعد شيء فإنه على هذا لا يكون في الأزل موجبا بذاته ولا علة سابقة تامة فلا يكون معه في أول شيء من المخلوقات، لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئا بعد شيء، وكل مفعول يأخذ عنده وجود كمال فاعليته، إذ المؤثر التام الملتزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره إذ لو تخلف لم يكن مؤثرا تاما، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام، يستلزم وجود الأثر، فليس في الأول مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأول ليس هو حدا محدودا ولا وقتا معينا بل كل بتقدير العقل من الغاية التي ينتهي إليها، فالأول قبل ذلك كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " فلو قيل أنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارنا له دائما، وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوداث، لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه، وإن كانت ذات المؤثر وموجودة قبل ذلك لكن لا بد من وجود شروط التأثير عند وجود الأثر والألزم الترجيح من غير مرجح وتخلف المعلول عن العلة التامة ووجود الممكن بدون المرجح التام وكل هذا ممتنع وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

فصل في نظرية الأشعرية والكلابية في قدم الكلام النفسي دون اللفظي

وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس فالذين قالوا ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، تنازعوا في كلام الله تعالى، فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئته المتكلم وقدرته فيكون حادثا كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة والرب تعالى لا يقوم به الحوادث فيكون الكلام مخلوقا في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقا من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل، وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات والروائح والحركة العلم والقدرة والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات علامة، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول: كل كلام في الوجود فهو كلامه كما قال بعض الاتحادية:

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم، فإن هؤلاء يقولون: إنه خالق أفعال العباد وكلامهم، مع قولهم أن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا، وأما المعتزلة فلا يقولون إن الله تعالى خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك، وقالت طائفة: بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن لا يكون كلامه إلا مخلوقا في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته، فيكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن لامتناع حوادث لا أول لها، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقا الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقا بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة إذ لو قلنا أنه بمشيئته وقدرته لزم أن يكون حادثا وحينئذ يلزم أن يكون مخلوقا أو قائما بذاته فيلزمه قيام الحوادث به وذلك مستلزم لتسلسل الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده، قالوا وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل.

اختلاف العلماء في قدم حروف القرآن والأصوات به

ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة القديم لا يكون حروفا ولا أصواتا، لأن تلك الحروف لا تكون كلاما إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقا بغيره، فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقا بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده، لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحا من غير مرجح، وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد، قالوا وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحدا هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.

وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة، ومنهم من قال بل هو أيضا أصوات قديمة، ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد، فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى، فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديما، لأن ما وجب قدمه، لزم بقاؤه وامتنع عدمه.

والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه...

وقد يراد بالحروف نفس المداد، وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضا الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ونحو ذلك، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية وهي ما يسجل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به.

وقد تنازع الناس هل يتمكن وجود حروف بدون أصوات قديمة لم تزل ولا تزال، ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ هل سمع منه الصوت القديم؟ قيل المسموع هو الصوت القديم، وقيل بل المسموع هو صوتان أحدهما القديم والآخر المحدث، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القرآن وما زاد على ذلك فهو المحدث، وتنازعوا في القرآن هل يقال إنه حال في المصحف والصدور أم لا؟ يقال على قولين: فقيل هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه، وقيل بل القرآن حال في الصدور والمصاحف.

فهؤلاء الخلقية والحادثية والاتحادية والإقرائية أصل قولهم: إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقا، ومن قال بهذا الأصل فإنه يلزم بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثا أو قديما، وإذا كان حادثا إما أن يكون حادثا في غيره، وإما أن يكون حادثا في ذاته، وإذا كان قديما فإما أن يكون القديم المعني فقط أو اللفظ، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم أن لا يكون الكلام المقروء كلام الله ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف.

وأما قدم اللفظ فقط فهذا لم يقل به أحد لكن من الناس من يقول إن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخل في مسمى الكلام، فهذا يقول الكلام القديم هو اللفظ فقط: إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول إن معناه قديم.

مذهب القائلين بحوادث لا أول لها 

 وقدم العالم

وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقا، وإن القديم يجوز أن يعتقب عليه الحوادث مطلقا وإن كان ممكنا لا واجبا بنفسه، فهؤلاء هم القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم هذه الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته.

وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا: إن لها علة غاثية تتحرك للتشبه بها فهي تحركها كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعا بذاته، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة ابن سينا وأتباعه، وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلا.

أما على قول من جعل الأزل علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلا لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم، فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره لكون القدرة والداعي يستلزمان وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد، فيقال لهم تقولون هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه أنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئا بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقول، وهذا القول الذي يقوله ابن سينا وأتباعه باطل أيضا لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع بذاته.

وإذا قالوا بحركة توسطه قيل لهم: إنما هو في حدوث الحركة، فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضي لها علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها، فإن ذلك جمع بين النقيضين، إذا القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا يحدث بها.

وهؤلاء يقولون: كلام الله ما يفيض على النفوس الصافية كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاما خارجا عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة، مع أن أكثرهم يقولون إنها أعراض.

وقد تبين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية الحوادث التي هي العقول والنفوس والمواد والصور إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.

مذهب الذين فرقوا بين الواجب 

 والممكن في كلام الله

وأما الصنف الثالث الذين فرقوا بين الواجب والممكن والخالق والمخلوق والغني الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغير، فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئا قديما فضلا عن أن يقارن حوادث لا أول لها، ولهذا كانت حركة الفلك دليلا على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه، وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فاعلا، لم يكن دوام كونه متكلما بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلا بمشيئته وقدرته ممتنعا، بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام، إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به، لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعا وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكنا يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره، فإن معطي الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطيا له الكمال وهذا ممتنع، بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلما وأن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكنا له.

الحروف المفردة وأسماء الأعلام في القرآن وفي كلام الناس

وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديما لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة، لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب وقدمها وحدوثها وحدوث العالم.

وإذا قيل أن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكنا بخلاف ما إذا قيل اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن كان هذا مكابرة للحس، والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجودها بنوعها، وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع والتأليف المعين فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله.

أصل رواية سجود الحروف لآدم إلا الألف ومعناها

والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفا من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطي وهو نقلها عن بكر بن خنيس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا إثبات أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيرا من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئا حتى يؤمر بهن فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدة لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس.

وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط غير العرب لا يماثل خط العرب، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ثابتة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم والحروف المنطوقة لا يقال فيها بأنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون إن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية فقد قال عنهم ما لم يقولوه.

وأما الإمام أحمد فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفا من حروف المعجم مخلوق فقد سلك طريقا إلى البدعة، قال إن ذلك مخلوق، وقد قال إن القرآن مخلوق ولا ريب أنه من جعل نوع الحروف مخلوقا ثابتا عن الله كائنا بعد إن لم يكن لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقا، وامتنع أن يكون الله متكلما بكلامه الذي أنزله إلى عباده، فلا يكون شيء من ذلك كلامه.

مذهب السلف والأئمة كالشافعي وأحمد في القرآن

فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثابت الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.

وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله تعالى، والنبي ﷺ سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي ﷺ وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوقا فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

والكلام في هذا الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفات وإيجادها وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية، فإن عمومها متأولة بالأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه أمور مشكلة ومحارات للعقول ولهذا اضطرب فيها طوائف من الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله سبحانه أعلم.. ((انتهى)).

ذكر ما لخصه الإمام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أيضا في كتابه "منهاج السنة""1 في مسألة الكلام

السبعة الأقوال للناس في كلام الله تعالى

هذه مسألة كلام الله تعالى الناس فيها مضطربون، قد بلغوا فيها إلى سبعة أقوال:

أحدها: قول من يقول: إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض، إما من العقل الفعال عند بعضهم، وإما من غيره، وهذا قول الصائبة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله، ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم، كأصحاب وحدة الوجود، وفي كلام صاحب الكتب " المضنون بها على غير أهلها " ورسالة " مشكاة الأنوار " وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا، وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا، لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه، وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطابقة الأحاديث النبوية.

وثانيها: قول من يقول: بأنه معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.

ورابعها: قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث، ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة. وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم، وهؤلاء قال طائفة منهم: إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت المسموع من النار، أو هي بعض الصوت المسموع من النار، وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا هذا مخالفة لضرورة العقل.

وخامسها وسادسها: قول من يقول: إنه حروف وأصوات، لكن تكلم بعد أن لم يكن متكلما، وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته، بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا، وهذا قول الكرامية وغيرهم، وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة.

وسابعها: قول من يقول: إنه لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة.

مذهب آل البيت هو مذهب أهل 

 السنة والحديث

وبالجملة أهل السنة والجماعة - أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية - يقولون إن الكلام غير مخلوق، وهذا هو المتواتر عن السلف والأئمة من أهل البيت وغير أهل البيت، ولكن تنازعوا بعد ذلك على الأقوال الخمسة المتأخرة.

أما القولان الأولان فالأول: قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم، والثاني: قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم كالنجارية والضرارية.

وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة، وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث، وهذا هو المعروف عند أهل البيت كعلي بن أبي طالب وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وغيرهم، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من كان ينكر الرؤية، ولا يقول بخلق القرآن ولا ينكر القدر ولا يقول بالنص على علي ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر، ولا يسب أبا بكر وعمر، والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة، وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع، وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غيرهم من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يعفر أنه لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سبقهم إليه أحد.

نقض مذهب الشيعة الاعتزالي في مسألة الكلام

وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا - أي ابن المطهر الذي رد عليه ابن تيمية في هذا البحث - : قولك " إن أمره ونهيه وأخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأخباره، أتريد به أنه حادث في ذاته، أم حادث منفصل عنه؟ والأول قول أئمة الشيعة المتقدمة والجهمية والمرجئة والكرامية، مع كثير من أهل الحديث وغيرهم.

ثم إذا قيل: حادث، أهو حادث النوع، فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما، أو حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء؟ والكلام الذي كلم به موسى هو حادث، وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل؟ فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك.

وقد علم أنك أردت النوع الأول وهو قول الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال، فقالوا: إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، فيقال لك: إذا كان الله قد خلقه منفصلا عنه لم يكن كلامه، فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها وفعلها في غيره، ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في جسم كان ذلك الجسم هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات الله بل مخلوقات له، ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات - كما قال " يا جبال أوبي معه والطير " وكما قال: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " وكما قال: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " ومثل تسليم الحجر على النبي ﷺ أو تسبيح الحصى بيده، وتسبيح الطعام وهم يأكلونه، فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره، وإذا تكلمت الأيدي فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم الله به موسى بن عمران.

تفنيد قول اتحادية الصوفية والمعتزلة في كلام الله

وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه، وهذا ما قالته الحلولية، من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال:

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

وحينئذ فيكون قول فرعون " أنا ربكم الأعلى " كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " كلام الله.

وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه المخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " وقال: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا " ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائما به، وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام، كما لا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة، ولا عالم إلا من يقوم به العلم، ولا متحرك إلا من تقوم به الحركة ولا فاعل إلا من يقوم به الفعل، فمن قال: إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلا عنه. قال ما لا يعقل، ولم يفهم الرسل الناس هذا، بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل بل ما هو متصف به.

الكلام صفة ذات وصفة فعل لمن قام به، والفعل غير المفعول

قالوا: المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما فيقال لهم: للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال: قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا عنه، وهذا إنما قاله هؤلاء.

وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته، وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم.

وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته فقام به الكلام، وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم، فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات، والصنف الثاني يقولون: صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته، والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل، وهو قائم به يتعلق بمشيئته وقدرته.

إذا كان كذلك فقولكم أنه صفة فعل ينازعكم فيه طائفة، وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال: هب أنه صفة فعل منفصل عن القائل الفاعل أو قائم به؟ أما الأول فهو قولكم الفاسد، وكيف تكون الصفة غير قائمة بالموصوف، أو القول غير قائم بالقائل؟

فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث؟ قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس التكوين وبين المخلوق المكون؟ وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة، وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قويه وقول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث، وحكاه البخاري في كتاب أفعال العباد عن العلماء مطلقا، وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية.

أقوال الشيعة في كلام الله فيها حق يوافق أهل الحديث وباطل

ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر، كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم، ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية، ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف.

وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم، فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم.

فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل، ومن لم يقل أن الباري يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء، فقد ناقض كتاب الله. ومن قال إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله تعالى يقول: " فلما جاءها نودي " وقال " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.

قالوا: وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به، وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وأنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما، فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة، ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته.

قيام الحوادث بالرب بمعنى "أفعاله" حق وبمعنى "مخلوقاته" باطل

ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة.

ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية؟

فإذا قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا منه كافيا في هذا الباب.

وإن كان الثاني، قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث ما لم يكن فاعلا لها ولا لضدها؟ فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها؟ ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل.

فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، وإن لم يكن جائزا كان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين.

فإن قلتم لنا: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم، قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم، وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك، قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه، وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها، أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها، وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل.

فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، أو منفصل عنه لا يقوم به، مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا، لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث.

فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية؟ قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون، فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا، وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن لأنه جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وهو منقول عن جعفر الصادق بن محمد في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه.

مذهب الشيعة الملفق ومذهب أهل السنة في كلام الله

والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن الباري موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه، وأنتم وافقتموهم على طائفة باطلهم، حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختار، ويقدر عليه، وجعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل، وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم.

ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل، من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء، وقلنا أنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا فلا نقول أن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم، ولا نقول أنه شيء واحد أمر ونهي وخبر، وأن معنى التوراة والإنجيل واحد، وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد، فإن هذا مكابرة للعقل، ولا نقول أنه أصوات متقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين.

وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم لما كان أزليا لم يزل، ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك، ولا نقول أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كل بها بعد نقصه، ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب، والقول في الثاني كالقول في الأول، ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوقا له حادثا بعد أن لم يكن، لأنه يكون سبب الحدوث وهو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك، فيعقل سبب حدوث الحوادث، ومع هذا يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته يلزمه موجبه ومقتضاه، فإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقوم بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشيء من الأشياء، فامتنع قدم شيء من العالم، وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى، لأنه على هذا التقدير الأول يكفي في نفس المشيئة والفعل الاختياري والقدرة، ومعلوم أن ما يتوقف على المشيئة والفعل الاختياري القائم به أن يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك.

والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.

وأكثر الناس لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال، وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب.. انتهى.

هامش
ج1 ص221.

ك1.تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه /ك2. {حقيقة مذهب الاتحاديين/معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد}

  تكفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه مسألة فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما، فقال له آخر: بل كلمه تكليما، فقال: إن قل...